فصل: تفسير الآية رقم (16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏

قال ابن جرير‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا، وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية‏؟‏

قيل‏:‏ لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية، لينجو مما هو له خائف، مخادعا، فكذلك المنافق، سمي مخادعا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر، مستبطن، وذلك من فعلِه -وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا- فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها أمنيّتها، ويُسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومُجرّعها بها كأس عذابها، ومُزيرُها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به، فذلك خديعته نفسه، ظنًا منه -مع إساءته إليها في أمر معادها- أنه إليها محسن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ إعلامًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم عليها ربهم بكفرهم، وشكهم وتكذيبهم، غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ أنبأنا عليّ بن المبارك، فيما كتب إليّ، حدثنا زيد بن المبارك، حدثنا محمد بن ثور، عن ابن جُرَيْج، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ‏}‏ قال‏:‏ يظهرون ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك‏.‏

وقال سعيد، عن قتادة‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ نعت المنافق عند كثير‏:‏ خَنعُ الأخلاق يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها‏.‏

‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏

قال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ قال‏:‏ شَكٌّ، ‏{‏فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا‏}‏ قال‏:‏ شكًّا‏.‏

وقال ‏[‏محمد‏]‏ بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس ‏[‏في قوله‏]‏ ‏{‏‏:‏ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ قال‏:‏ شك‏.‏ وكذلك قال مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وأبو العالية، والرّبيع بن أنس، وقتادة‏.‏

وعن عكرمة، وطاوس‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ يعني‏:‏ الرياء‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ قال‏:‏ نفاق ‏{‏فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا‏}‏ قال‏:‏ نفاقا، وهذا كالأول‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ قال‏:‏ هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد، وهم المنافقون‏.‏ والمرض‏:‏ الشك الذي دخلهم في الإسلام ‏{‏فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا‏}‏ قال‏:‏ زادهم رجسًا، وقرأ‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 124، 125‏]‏ قال‏:‏ شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم‏.‏

وهذا الذي قاله عبد الرحمن، رحمه الله، حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضًا‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وقوله ‏{‏بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ‏}‏ وقرئ‏:‏ ‏"‏يكذّبون‏"‏، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا‏.‏ وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه، عليه السلام، عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين‏:‏ أنه قال لعمر‏:‏ ‏"‏أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه‏"‏ ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون‏:‏ إن محمدًا يقتل أصحابه، قال القرطبي‏:‏ وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم مع علمه بشر اعتقادهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهي طريقة أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وابن الماجشون‏.‏ ومنها‏:‏ ما قال مالك، رحمه الله‏:‏ إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام، قال‏:‏ ومنها ما قال الشافعي‏:‏ إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يجبّ ما قبله‏.‏ ويؤيد هذا قوله، عليه الصلاة والسلام، في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما‏:‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، عز وجل‏"‏‏.‏ ومعنى هذا‏:‏ أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه في الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا، وكونه كان خليط أهل الإيمان ‏{‏يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الحديد‏:‏ 14‏]‏، فهم يخالطونهم في بعض المحشر، فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم ‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 54‏]‏ ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت بذلك الأحاديث، ومنها ما قاله بعضهم‏:‏ أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من شرهم مع وجوده، عليه السلام، بين أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات، فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون، قال مالك‏:‏ المنافق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم‏.‏ قلت‏:‏ وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا‏.‏ أو يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم لا أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر عليه‏؟‏ على أقوال موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام‏.‏

‏(‏تنبيه‏)‏ قول من قال‏:‏ كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة‏.‏ ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم‏.‏

فأما غير هؤلاء فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا‏}‏ ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ‏}‏ وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات ‏[‏صلى عليه‏]‏ صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال‏:‏ ‏"‏إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه‏"‏ وفي رواية في الصحيح ‏"‏إني خيرت فاخترت‏"‏ وفي رواية ‏"‏لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11 - 12‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ‏}‏

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة الطيب الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ أما لا تفسدوا في الأرض، قال‏:‏ الفساد هو الكفر، والعمل بالمعصية‏.‏

وقال أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ‏}‏ قال‏:‏ يعني‏:‏ لا تعصُوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة‏.‏ وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة‏.‏

وقال ابن جُرَيْج، عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ‏}‏ قال‏:‏ إذا ركبوا معصية الله، فقيل لهم‏:‏ لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا‏:‏ إنما نحن على الهدى، مصلحون‏.‏

وقد قال وَكِيع، وعيسى بن يونس، وعثَّام بن علي، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله الأسدي، عن سلمان الفارسي‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ قال سلمان‏:‏ لم يجئ أهل هذه الآية بعد‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدثني أحمد بن عثمان بن حَكيم، حدثنا عبد الرحمن بن شَريك، حدثني أبي، عن الأعمش، عن زيد بن وهب وغيره، عن سلمان، في هذه الآية، قال‏:‏ ما جاء هؤلاء بَعْدُ‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادًا من الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكّهم في دينه الذي لا يُقْبَلُ من أحد عمل إلا بالتصديق به والإيقان بحقيقته، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله، إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا‏.‏ فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها‏.‏

وهذا الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 73‏]‏ فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 144‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 145‏]‏ فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل؛ لأنه هو الذي غَرّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حالته الأولى لكان شرّه أخف، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، كما قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب‏.‏ يقول الله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ‏}‏ يقول‏:‏ ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏

يقول ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ وإذا قيل للمنافقين‏:‏ ‏{‏آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ‏}‏ أي‏:‏ كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك، مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر ‏{‏قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ‏}‏ يعنون -لعنهم الله- أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم، قاله أبو العالية والسدي في تفسيره، بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة، وبه يقول الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم، يقولون‏:‏ أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء‏!‏‏!‏

والسفهاء‏:‏ جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم ‏[‏والحلماء جمع حليم‏]‏ والسفيه‏:‏ هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار؛ ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 5‏]‏ قال عامة علماء السلف‏:‏ هم النساء والصبيان‏.‏

وقد تولى الله، سبحانه، جوابهم في هذه المواطن كلها، فقال ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ‏}‏ فأكد وحصر السفاهة فيهم‏.‏

‏{‏وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى، والبعد عن الهدى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14 - 15‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏

يقول ‏[‏الله‏]‏ تعالى‏:‏ وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا‏:‏ ‏{‏آمَنَّا‏}‏ أي‏:‏ أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم، ‏{‏وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم‏.‏ فضمن ‏{‏خَلَوْا‏}‏ معنى انصرفوا؛ لتعديته بإلى، ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ ‏"‏إلى‏"‏ هنا بمعنى ‏"‏مع‏"‏، والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير‏.‏

وقال السدي عن أبي مالك‏:‏ ‏{‏خَلَوْا‏}‏ يعني‏:‏ مضوا، و‏{‏شَيَاطِينِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين‏.‏

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة عن ابن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ هم رؤوسهم من الكفر‏.‏ وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ وإذا خلوا إلى أصحابهم، وهم شياطينهم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ‏}‏ من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ‏}‏ إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ إلى رؤوسهم، وقادتهم في الشرك، والشر‏.‏ وبنحو ذلك فسَّره أبو مالك، وأبو العالية والسدي، والرّبيع بن أنس‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وشياطين كل شيء مَرَدَتُه، وتكون الشياطين من الإنس والجن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏‏.‏

وفي المسند عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن‏"‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، وللإنس شياطين‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ‏}‏ قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ أي إنا على مثل ما أنتم عليه ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ قالوا إنما نحن مستهزئون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذلك قال الرّبيع بن أنس، وقتادة‏.‏

وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏

وقال ابن جرير‏:‏ أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة، في قوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ‏}‏ الآية ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 178‏]‏‏.‏ قال‏:‏ فهذا وما أشبهه، من استهزاء الله، تعالى ذكره، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول، ومتأول هذا التأويل‏.‏

قال‏:‏ وقال آخرون‏:‏ بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به‏.‏

قال‏:‏ وقال آخرون‏:‏ هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به‏:‏ أنا الذي خدعتك‏.‏ ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا‏:‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏ و‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى‏:‏ أن المكر والهُزْء حَاق بهم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ وقوله ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 142‏]‏، وقوله ‏{‏فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 79‏]‏ و‏{‏نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 67‏]‏ وما أشبه ذلك، إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جَزَاءَ الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ، وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏، فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما‏.‏

قال‏:‏ وإلى هذا المعنى وَجَّهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك‏.‏

قال‏:‏ وقال آخرون‏:‏ إن معنى ذلك‏:‏ أنّ الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا خَلَوا إلى مَرَدَتِهم قالوا‏:‏ إنا معكم على دينكم، في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما يظهر لهم -من قولنا لهم‏:‏ صدقنا بمحمد، عليه السلام، وما جاء به مستهزئون؛ فأخبر الله تعالى أنه يستهزئ بهم، فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا، يعني من عصمة دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة، يعني من العذاب والنكال‏.‏

ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول وينصره؛ لأن المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله، عز وجل، بالإجماع، وأما على وجه الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك‏.‏

قال‏:‏ وبنحو ما قلنا فيه روي الخبر عن ابن عباس‏:‏ حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عثمان، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ يسخر بهم للنقمة منهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ قال السدي‏:‏ عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود، وعن أناس من الصحابة ‏[‏قالوا‏]‏ يَمدهم‏:‏ يملي لهم‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ يزيدهم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والصواب يزيدهم على وجه الإملاء والترك لهم في عُتُوّهم وتَمَرّدهم، كما قال‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 110‏]‏‏.‏

الطغيان‏:‏ هو المجاوزة في الشيء‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏، وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ في كفرهم يترددون‏.‏ وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة، وبه يقول أبو العالية، وقتادة، والرّبيع بن أنس، ومجاهد، وأبو مالك، وعبد الرحمن بن زيد‏:‏ في كفرهم وضلالتهم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ والعَمَه‏:‏ الضلال، يقال‏:‏ عمه فلان يَعْمَه عَمَهًا وعُمُوهًا‏:‏ إذا ضل‏.‏

قال‏:‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ في ضلالهم وكفرهم الذي غمرهم دَنَسُه، وعَلاهم رجْسه، يترددون ‏[‏حيارى‏]‏ ضُلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا؛ لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم وختم عليها، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها، فلا يبصرون رُشْدًا، ولا يهتدون سبيلا‏.‏

‏[‏وقال بعضهم‏:‏ العمى في العين، والعمه في القلب، وقد يستعمل العمى في القلب -أيضا-‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ ويقال‏:‏ عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه، وجمعه عمّه، وذهبت إبله العمهاء‏:‏ إذا لم يدر أين ذهبت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى‏}‏ قال‏:‏ أخذوا الضلالة وتركوا الهدى‏.‏

وقال ‏[‏محمد‏]‏ بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى‏}‏ أي‏:‏ الكفر بالإيمان‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ آمنوا ثمّ كفروا‏.‏

وقال قتادة‏:‏ استحبوا الضلالة على الهدى ‏[‏أي‏:‏ الكفر بالإيمان‏]‏‏.‏ وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وحاصل قول المفسرين فيما تقدم‏:‏ أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة، وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى‏}‏ أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر، كما قال تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 3‏]‏، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى، كما يكون حال فريق آخر منهم، فإنهم أنواع وأقسام؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏ أي‏:‏ ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة، ‏{‏وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏ أي‏:‏ راشدين في صنيعهم ذلك‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا بشر، حدثنا يزيد، حدثنا سعيد، عن قتادة ‏{‏فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏ قد -والله- رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الجماعة إلى الفرقة، ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة‏.‏ وهكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديث يزيد بن زُرَيْع، عن سعيد، عن قتادة، بمثله سواء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 18‏]‏

‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏

‏[‏يقال‏:‏ مثل ومثل ومثيل -أيضا- والجمع أمثال، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وتقدير هذا المثل‏:‏ أن الله سبحانه، شبَّههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتَأنَّس بها فبينا هو كذلك إذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصم لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياء لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغَيّ على الرّشَد‏.‏ وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، والله أعلم‏.‏

وقد حكى هذا الذي قلناه فخر الدين الرازي في تفسيره عن السدي ثم قال‏:‏ والتشبيه هاهنا في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النور فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين‏.‏

وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والصواب‏:‏ أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سُلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير، رحمه الله، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 3‏]‏؛ فلهذا وجه ‏[‏ابن جرير‏]‏ هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدنيا، ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة‏.‏

قال‏:‏ وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال‏:‏ ‏{‏رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏ أي‏:‏ كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 28‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 5‏]‏، وقال بعضهم‏:‏ تقدير الكلام‏:‏ مثل قصتهم كقصة الذي استوقد نارا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المستوقد واحد لجماعة معه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ الذي هاهنا بمعنى الذين كما قال الشاعر‏:‏

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم خالد

قلت‏:‏ وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏ وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النظام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النور، وأبقى لهم ما يضرهم، وهو الإحراق والدخان ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ‏}‏ وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق، ‏{‏لا يُبْصِرُونَ‏}‏ لا يهتدون إلى سبل خير ولا يعرفونها، وهم مع ذلك ‏{‏صُمٌّ‏}‏ لا يسمعون خيرا ‏{‏بُكْمٌ‏}‏ لا يتكلمون بما ينفعهم ‏{‏عُمْيٌ‏}‏ في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 46‏]‏ فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة‏.‏

ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه‏:‏

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏ زعم أن ناسًا دخلوا في الإسلام مَقْدَم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجُل كان في ظلمة، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق‏:‏ كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، و‏[‏عرف‏]‏ الخير والشر، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏ أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى‏.‏

وقال عطاء الخرساني في قوله‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ قال‏:‏ هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثم يدركه عمى القلب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن عكرمة، والحسن والسدي، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني‏.‏

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ إلى آخر الآية، قال‏:‏ هذه صفة المنافقين‏.‏ كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس، في هذه الآية، قال‏:‏ أما النور‏:‏ فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به، وأمَّا الظلمة‏:‏ فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى، ثمّ نزع منهم، فعتوا بعد ذلك‏.‏

وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العِزّ، كما سُلِب صاحب النار ضَوءه‏.‏

وقال أبو جعفر الرازي، عن الرّبيع بن أنس، عن أبي العالية‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا‏}‏ فإنما ضوء النار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص، بلا إله إلا الله، أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة‏.‏

وقال الضحاك ‏[‏في قوله‏]‏ ‏{‏ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ‏}‏ أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة‏:‏ ‏{‏مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ‏}‏ فهي لا إله إلا الله؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون‏.‏

وقال سعيد، عن قتادة في هذه الآية‏:‏ إن المعنى‏:‏ أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت‏.‏

سلبها المنافق؛ لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله‏.‏

‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ‏}‏ يقول‏:‏ في عذاب إذا ماتوا‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ‏}‏ أي يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم الله في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق‏.‏ وقال السدي في تفسيره بسنده‏:‏ ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ‏}‏ فكانت الظلمة نفاقهم‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ‏}‏ فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السوء، فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏ قال السدي بسنده‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏ فهم خرس عمي‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏ يقول‏:‏ لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه، وكذا قال أبو العالية، وقتادة بن دعامة‏.‏

‏{‏فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أي لا يرجعون إلى هدى، وكذلك قال الرّبيع بن أنس‏.‏

وقال السدي بسنده‏:‏ ‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏ إلى الإسلام‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏ أي لا يتوبون ولا هم يذكرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 20‏]‏

‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏

وهذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة، ويشكّون تارة أخرى، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم ‏{‏كَصَيِّبٍ‏}‏ والصيب‏:‏ المطر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصحابة، وأبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري، وقتادة، وعطية العَوْفِي، وعطاء الخراساني، والسُّدي، والرّبيع بن أنس‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ هو السحاب‏.‏

والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات، وهي الشكوك والكفر والنفاق‏.‏ ‏{‏وَرَعْدٌ‏}‏ وهو ما يزعج القلوب من الخوف، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ‏[‏هُمُ الْعَدُوُّ‏]‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 4‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 56، 57‏]‏‏.‏

والبرق‏:‏ هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان، من نور الإيمان؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ ولا يُجْدي عنهم حذرهم شيئًا؛ لأن الله محيط ‏[‏بهم‏]‏ بقدرته، وهم تحت مشيئته وإرادته، كما قال‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 17-20‏]‏‏.‏

‏[‏والصواعق‏:‏ جمع صاعقة، وهي نار تنزل من السماء وقت الرعد الشديد، وحكى الخليل بن أحمد عن بعضهم صاعقة، وحكى بعضهم صاعقة وصعقة وصاقعة، ونقل عن الحسن البصري أنه‏:‏ قرأ ‏"‏من الصواقع حذر الموت‏"‏ بتقديم القاف وأنشدوا لأبي النجم‏:‏

يحكوك بالمثقولة القواطع *** شفق البرق عن الصواقع

قال النحاس‏:‏ وهي لغة بني تميم وبعض بني ربيعة، حكى ذلك‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ‏}‏ يقول‏:‏ يكاد مُحْكَمُ القرآن يدل على عورات المنافقين‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ‏}‏ أي لشدة ضوء الحق، ‏{‏كلما أضاء لهم مشوا فيه وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا‏}‏ أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه، وتارة تعْرِض لهم الشكوك أظلمت قلوبَهم فوقفوا حائرين‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ‏}‏ يقول‏:‏ كلما أصاب المنافقين من عز الإسلام اطمأنوا إليه، وإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ‏[‏وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ‏]‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا‏}‏ أي‏:‏ يعرفون الحق ويتكلمون به، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر ‏{‏قَامُوا‏}‏ أي‏:‏ متحيرين‏.‏

وهكذا قال أبو العالية، والحسن البصري، وقتادة، والربيع بن أنس، والسدي بسنده، عن الصحابة وهو أصح وأظهر‏.‏ والله أعلم‏.‏

وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ، وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطْفَأ نوره تارة ويضيء له أخرى، فيمشي على الصراط تارة ويقف أخرى‏.‏ ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين، الذين قال تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏ وقال في حق المؤمنين‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ‏}‏ الآية ‏[‏الحديد‏:‏ 12‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏‏.‏

ذكر الحديث الوارد في ذلك‏:‏

قال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏الحديد‏:‏ 12‏]‏، ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن، أو بين صنعاء ودون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه‏"‏‏.‏ رواه ابن جرير‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن دَاوَر القطان، عن قتادة، بنحوه‏.‏

وهذا كما قال المِنْهَال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يرى نوره كالنخلة، ومنهم من يرى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورًا على إبهامه يطفأ مرة ويَقِد مرة‏.‏ وهكذا رواه ابن جرير، عن ابن مُثَنَّى، عن ابن إدريس، عن أبيه، عن المنهال‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافسي حدثنا ابن إدريس، سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو، عن قيس بن السكن، عن عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏{‏نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 8‏]‏ قال‏:‏ على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى‏.‏

وقال ابن أبي حاتم أيضًا‏:‏ حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، حدثنا أبو يحيى الحِمَّاني، حدثنا عُتْبَةُ بن اليقظان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ ليس أحد من أهل التوحيد إلا يعطى نورًا يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين، فهم يقولون‏:‏ ربنا أتمم لنا نورنا‏.‏

وقال الضحاك بن مزاحم‏:‏ يعطى كل من كان يظهر الإيمان في الدنيا يوم القيامة نورًا؛ فإذا انتهى إلى الصراط طفئ نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا، فقالوا‏:‏ ‏"‏ربنا أتمم لنا نورنا‏"‏‏.‏

فإذا تقرر هذا صار الناس أقسامًا‏:‏ مؤمنون خُلّص، وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة، وكفار خلص، وهم الموصوفون بالآيتين بعدها، ومنافقون، وهم قسمان‏:‏ خلص، وهم المضروب لهم المثل الناري، ومنافقون يترددون، تارة يظهر لهم لُمَعٌ من الإيمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي، وهم أخف حالا من الذين قبلهم‏.‏

وهذا المقام يشبه من بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور، من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور، بالمصباح في الزجاجة التي كأنها كوكب دُرّي، وهي قلب المؤمن المفطور على الإيمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط، كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله‏.‏

ثم ضرب مثل العُبّاد من الكفار، الذين يعتقدون أنهم على شيء، وليسوا على شيء، وهم أصحاب الجهل المركب، في قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏‏.‏

ثم ضرب مثل الكفار الجُهَّال الجَهْلَ البسيط، وهم الذين قال ‏[‏الله‏]‏ فيهم‏:‏ ‏{‏أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏ فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين‏:‏ داعية ومقلد، كما ذكرهما في أول سورة الحج‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 3‏]‏ وقال بعده‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 8‏]‏ وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وآخرها وفي سورة الإنسان، إلى قسمين‏:‏ سابقون وهم المقربون، وأصحاب يمين وهم الأبرار‏.‏

فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات‏:‏ أن المؤمنين صنفان‏:‏ مقربون وأبرار، وأن الكافرين صنفان‏:‏ دعاة ومقلدون، وأن المنافقين -أيضًا- صنفان‏:‏ منافق خالص، ومنافق فيه شعبة من نفاق، كما جاء في الصحيحين، عن عبد الله بن عَمْرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثلاث من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعها‏:‏ من إذا حَدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان‏"‏‏.‏

استدلوا به على أن الإنسان قد تكون فيه شعبة من إيمان، وشعبة من نفاق‏.‏ إما عَمَلي لهذا الحديث، أو اعتقادي، كما دلت عليه الآية، كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض العلماء، كما تقدم، وكما سيأتي، إن شاء الله‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية يعني شيبان، عن ليث، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏القلوب أربعة‏:‏ قلب أجرد، فيه مثل السراج يُزْهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مُصَفَّح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن، سراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق الخالص، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومَثَل الإيمان فيه كمثل البقلة، يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يَمُدّها القيح والدم، فأي المدّتين غلبت على الأخرى غلبت عليه‏"‏‏.‏ وهذا إسناد جيد حسن‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ قال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد عن عِكْرِمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ‏}‏ قال‏:‏ لِمَا تركوا من الحق بعد معرفته‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ قال ابن عباس أي إنّ الله على كل ما أراد بعباده من نقمة، أو عفو، قدير‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع؛ لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط، و‏[‏أنه‏]‏ على إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير، ومعنى ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ قادر، كما أن معنى ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ عالم‏.‏

‏[‏وذهب ابن جرير الطبري ومن تبعه من كثير من المفسرين أن هذين المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون ‏"‏أو‏"‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ بمعنى الواو، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 24‏]‏، أو تكون للتخبير، أي‏:‏ اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا، قاله القرطبي‏.‏ أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين، على ما وجهه الزمخشري‏:‏ أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه، ويكون معناه على قوله‏:‏ سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين، فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة -ومنهم -ومنهم -ومنهم -يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم وصفاتهم، والله أعلم، كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ‏}‏ الآية ‏[‏النور‏:‏ 39، 40‏]‏، فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين، والله أعلم بالصواب‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21 - 22‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏

شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشا، أي‏:‏ مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، ‏{‏وَالسَّمَاءَ بِنَاءً‏}‏ وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 32‏]‏ وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا- في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد؛ رزقًا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن‏.‏ ومنْ أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏ ومضمونه‏:‏ أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يُشْرَك به غَيره؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال‏:‏ قلت‏:‏ يا رسول الله، أي الذنب أعظم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أن تجعل لله ندا، وهو خلقك‏"‏ الحديث‏.‏ وكذا حديث معاذ‏:‏ ‏"‏أتدري ما حق الله على عباده‏؟‏ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا‏"‏ الحديث وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏لا يقولن أحدكم‏:‏ ما شاء الله وشاء فلان، ولكن ليقل ما شاء الله، ثم شاء فلان‏"‏‏.‏

وقال حماد بن سلمة‏:‏ حدثنا عبد الملك بن عمير، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش، عن الطفيل بن سَخْبَرَة، أخى عائشة أم المؤمنين لأمها، قال‏:‏ رأيت فيما يرى النائم، كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت‏:‏ من أنتم‏؟‏ فقالوا‏:‏ نحن اليهود، قلت‏:‏ إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون‏:‏ عُزَير ابن الله‏.‏ قالوا‏:‏ وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون‏:‏ ما شاء الله وشاء محمد‏.‏ قال‏:‏ ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت‏:‏ من أنتم‏؟‏ قالوا‏:‏ نحن النصارى‏.‏ قلت‏:‏ إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون‏:‏ المسيح ابن الله‏.‏ قالوا‏:‏ وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون‏:‏ ما شاء الله وشاء محمد‏.‏ فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال‏:‏ ‏"‏هل أخبرت بها أحدًا‏؟‏‏"‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ فقام، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ ‏"‏أما بعد، فإن طُفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا‏:‏ ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا‏:‏ ما شاء الله وحده‏"‏‏.‏ هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة، به‏.‏ وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر، عن عبد الملك بن عمير به، بنحوه‏.‏

وقال سفيان بن سعيد الثوري، عن الأجلح بن عبد الله الكندي، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما شاء الله وشئت‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏أجعلتني لله ندا‏؟‏ قل‏:‏ ما شاء الله وحده‏"‏‏.‏ رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس، عن الأجلح، به‏.‏ وهذا كله صيانة، وحماية لجناب التوحيد، والله أعلم‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ‏}‏ للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، أي‏:‏ وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم‏.‏

وبه عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه‏.‏ وهكذا قال قتادة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم، حدثنا أبي عمرو، حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم، حدثنا شبيب بن بشر، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله، عز وجل ‏{‏فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا ‏[‏وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏]‏ قال‏:‏ الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن يقول‏:‏ والله وحياتك يا فلان، وحياتي، ويقول‏:‏ لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل لصاحبه‏:‏ ما شاء الله وشئتَ، وقول الرجل‏:‏ لولا الله وفلان‏.‏ لا تجعل فيها ‏"‏فلان‏"‏‏.‏ هذا كله به شرك‏.‏

وفي الحديث‏:‏ أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، فقال‏:‏ ‏"‏أجعلتني لله ندا‏"‏‏.‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏نعم القوم أنتم، لولا أنكم تنددون، تقولون‏:‏ ما شاء الله، وشاء فلان‏"‏‏.‏

قال أبو العالية‏:‏ ‏{‏فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا‏}‏ أي عدلاء شركاء‏.‏ وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة، والسُّدي، وأبو مالك‏:‏ وإسماعيل بن أبي خالد‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ قال‏:‏ تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل‏.‏

ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة‏:‏

قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا عفان، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف، وكان يُعَد من البُدَلاء، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، عن جده ممطور، عن الحارث الأشعري، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله عز وجل، أمر يحيى بن زكريا، عليه السلام، بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وكان يبطئ بها، فقال له عيسى، عليه السلام‏:‏ إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن، وإما أن أبلغهن‏.‏ فقال‏:‏ يا أخي، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد، فقعد على الشرف، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن، وأولهن‏:‏ أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئًا، فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِق أو ذهب، فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك‏؟‏ وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا‏.‏ وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة، كلهم يجد ريح المسك‏.‏ وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك‏.‏ وأمركم بالصدقة؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال لهم‏:‏ هل لكم أن أفتدي نفسي‏؟‏ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه‏.‏ وأمركم بذكر الله كثيرًا؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله‏"‏‏.‏

قال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن‏:‏ الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنه من خرج من الجماعة قيدَ شِبْر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، وإن صام وصلى‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل‏:‏ المسلمين المؤمنين عباد الله‏"‏‏.‏

هذا حديث حسن، والشاهد منه في هذه الآية قوله‏:‏ ‏"‏وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا‏"‏‏.‏

وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال‏:‏ وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه، كما قال بعض الأعراب، وقد سئل‏:‏ ما الدليل على وجود الرب تعالى‏؟‏ فقال‏:‏ يا سبحان الله، إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج‏؟‏ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير‏؟‏

وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى، فقال لهم‏:‏ دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد‏.‏ فقالوا‏:‏ هذا شيء لا يقوله عاقل، فقال‏:‏ ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع‏!‏‏!‏ فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه‏.‏

وعن الشافعي‏:‏ أنه سئل عن وجود الصانع، فقال‏:‏ هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل فيخرج منه العسل، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثا، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد‏.‏

وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال‏:‏ هاهنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة‏.‏

وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد‏:‏

تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك

وقال ابن المعتز‏:‏

فيا عجبًا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

وقال آخرون‏:‏ من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل جانب، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27، 28‏]‏ وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما زرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه، عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا‏.‏